البحرينيون يواجهون السكلر منذ 1200 عام

قاتل فتاك، يجيد قتل ضحاياه وهم يصرخون ويتألمون.. هو وحش تواجهه البحرين منذ أكثر من 1200 سنة، ويترصد نحو 8700 مصاب به.. هو السكلر، وما أدراك ما السكلر، الذي يواجهه البحرينيون بالمورفين والمسكنات المخدرة منذ عشرات السنين. وفي مشهد متكرر يوميًا في غرفة الطوارئ بمجمع السلمانية الطبي، وهو أكبر مستشفى في البحرين، تجد رجلا أو امرأة بألم لا يطاق، وبصراخ لا يتحمل، نتيجة الإصابة بما يتعارف عليه طبيًا في البحرين بـ “نوبة سكلر”.
والسؤال القائم: ما هو السكلر؟ ولماذا يجيد احتراف الألم والموت لمرضاه؟ ولماذا تتميز البحرين عن أقرانها بدول الخليج بوجود هذا المرض؟
بداية البدايات
مرض فقر الدم المنجلي وفق تعريف العلم، هو اضطراب ينتمى إلى مجموعة من الاضطرابات التي تعرف باسم مرض الخلايا المنجلية، تؤثر في شكل خلايا الدم الحمراء، التي تحمل الأكسجين إلى كل أجزاء الجسم.
وعادة ما تكون خلايا الدم الحمراء مستديرة ومرنة، الأمر الذي يسهل حركتها في الأوعية الدموية، ولكن في حالة الإصابة بفقر الدم المنجلي، تتخذ خلايا الدم الحمراء شكل المنجل، أو الهلال، وتصبح صلبة، ولزجة، ما قد يبطئ تدفق الدم ويمنعه.
ويرجع تاريخ المرض في البحرين إلى أكثر من 1200 سنة، وأشار إلى ذلك الباحث محمد الجمري في دراسة مفصلة، بالتعاون مع متحف مسقط، والجامعة الفرنسية، بأن الآثار البشرية التي وجدوها تؤكد وجود المرض بالفترة سالفة الذكر.
في العصر الحديث، وفي العام 1957 تحديدا، وأثناء انتشار حمى الملاريا في البحرين، اكتشف الأطباء أن المصابين غير البحرينيين بفقر الدم المنجلي، لا يتخطون 500 شخص.
في حين كان عدد المصابين البحرينيين 25 شخصا، وسط دهشة الباحثين من هذه النتائج، وتساءلوا عن الأسباب الكامنة خلفها.
الأولى خليجيا
وفي مقارنة للبحرين مع شقيقاتها بدول الخليج العربي بعدد الإصابات، فإنها تحتل الرقم واحد بعدد 8700 مصاب تقريبا، وفقا للأرقام المعتمدة من قبل وزارة الصحة البحرينية.
وما يتداول من أحاديث بشأن المرض، والمكتسبات التي تحققت، وتتحقق، سواء في المنصات الرقمية، والمجالس، وأحاديث الناس، هو بسبب حضور المرض والمرضى في المشهد بشكل مباشر، وأن هنالك جهودا تكافلية، ما بين الدولة والجهات الأهلية، وعلى رأسها الجمعية البحرينية لرعاية مرضى فقر الدم المنجلي (السكلر).
وأن هنالك مرضى يطالبون بحقوق الرعاية، والاهتمام، وهو ما يقودنا إلى نسبة وفيات المرض في البحرين، حيث كان متوسط عدد الوفيات بالسابق 50 شخصا في العام الواحد، لكن هذا الرقم انخفض كثيرا في فترة “كوفيد 19” إلى 18 حالة.
متوسط عمري
ووفقًا للإحصاءات الرسمية لوزارة الصحة والجمعية البحرينية لرعاية مرضى السكلر، يبلغ متوسط عمر مريض فقر الدم المنجلي في البحرين 65 عاما، مقابل 42 عاما بدول الخليج، ما يؤكد الرعاية الصحية الكاملة التي يحصل عليها المرضى عبر عدد واسع من التخصصات، تصل إلى 13 تخصصا؛ من أجل وضع الخطة العلاجية المناسبة بغضون ساعتين فحسب.
ولو تفحصنا عدد المرضى الذين يزورون المستشفيات البحرينية لتلقي العلاج، سنجد أنهم لا يتخطون 10 %، في حين يركز الـ 90 % الآخرون على الخدمات غير الصحية، لتحسين جودة حياتهم، كالتعليم، والصحة، والمجتمع، والمؤسسات الدينية والاجتماعية.
مسح رباعي
وإفريقيًّا، فإن 75 % من أطفال مرض الفقر الدم المنجلي، يموتون قبل بلوغ سن الخامسة، بخلاف البحرين يبلغ بها المتوسط العمري للمريض 65 عاما.
وينتهج البروتوكول الطبي الوقائي البحريني، إجراء عملية المسح الطبي الشامل للمولود، 4 مرات طوال سنوات عمره حتى الزواج، بآلية متقدمة تؤكد الرعاية والاهتمام.
أول مسح عند الولادة، والثاني قبل دخول المدرسة، ثم قبل دخول الصف الأول الثانوي، وأخيرا قبل الزواج.
إن مقارنة التجربة البحرينية في علاج مرضى فقر الدم المنجلي، وتوفير الحماية لهم، يجب أن تنظر مع نظيراتها في الدول الأوروبية، والإسكندنافية لتقدمها، ولتحضرها، ولأنها أهل للمقارعة والمقارنة وأخذ التجربة.
مشروع جينوم
مشروع “جينوم” مستشفى السلمانية الطبي والخاص بالأمراض الوراثية هو مشروع حكومي طموح تم إطلاقه بالعام 2019؛ بهدف جمع 50 ألف عينة من المواطنين لرسم خريطة البحرين الجينية، وإنشاء قاعدة بيانات شاملة، تساهم في رصد الأمراض الوراثية والوقاية منها، وتم الانتهاء من جمع عدد العينات المطلوبة، قبل المدة المحدد لها، في إنجاز يؤكد عزيمة البحرينيين في هذا المضمار.
وأشار رئيس الجمعية البحرينية لرعاية مرضى السكلر زكريا الكاظم لـ “البلاد” إلى أن المشروع يهدف أيضا للتعرف على طبيعة الأمراض المزمنة والشائعة في المجتمع المحلي، والتواصل المباشر مع شركات الأدوية العالمية، وطلب تصنيعها أدوية تناسب طبيعة هذه الأمراض ومستجداتها، وعدم الاعتماد على الأدوية الجاهزة.
وفي تساؤل مطروح عن سبب عدم انتهاء المرض في البحرين، رغم وجود التشريعات الملزمة لفحص ما قبل الزواج، قال الكاظم “تقودنا الإحصاءات إلى نسبة الإصابات بمرض فقر الدم المنجلي في العام 2006، بعدد 4 مواليد مصابين لكل 100 مولود، وفي العام 2010 بلغ العدد 4 مواليد لكل ألف مولود، وفي العام 2014 كان الرقم قياسيا بالفعل كقصة نجاح وطنية، 6 مواليد لكل عشرة آلاف”.
وأضاف أن “الأرقام هائلة، والمنجزات كبيرة، وكلها وفق إحصاءات وزارة الصحة، وفي إشارة واضحة لتقدم مملكة البحرين في هذا المضمار، كما كان لوعي الجدة البحرينية دور في ذلك، مع رفضها أي زواج إذا رفض أحد المتقدمين إجراء الفحص، أو إذا كانت نتائجه غير متطابقة”. وتابع “لكن حين جاءت جائحة كورونا، لم تستطع الجدة الخروج من منزلها، أو تلتقي بالآخرين، وهنا انكمش دورها بهذا الشأن، فأصبح التأثير على تزايد الإصابات بمرض فقر الدم المنجلي كبيرا، مع عزل الجدة”.
ويواصل “بلغ عدد المسجلين في وزارة التربية والتعليم لعدد المصابين بالمرض قبل 5 سنوات، وفقا للإحصاءات الرسمية، 360 طالبا وطالبة، في حين يتجاوز عدد الطلبة المصابين حاليا الـ 1200 طالب وطالبة”.
وتابع “هذه القفزة تحمل دلالة غياب دور الجدة، وبدأت الزيجات تسمح للزواج غير المتطابق، بقلة وعي، وناقوس خطر، وهو ما سيجعل الخطة الموضوع للقضاء على المرض ستصل إلى 80 عاما، لأن تتخطى هذا الرقم بمراحل”.
الآلام متفاوتة
وتتفاوت الآلام عند مريض فقر الدم المنجلي من البسيطة، إلى المتوسطة، إلى المبرحة التي لا يستطيع المريض أن يتحملها، حيث يصل مستوى نوباتها إلى ما يساوي 10 مرات من آلام الولادة، وتستدعي الدخول للمستشفى والحصول على مواد أفيونية للتخلص من هذه الآلام. والنوع الرابع منها، هو الألم المزمن، الذي لا يغادر الجسد، بسبب تآكل العظام، والمفاصل، أو خسارة عضو رئيس داخل الجسم، والذي يتسبب بالنهاية في هذه الآلام.
مبادرات ومواقف
في برامج حكومة البحرين من العام 2014 إلى العام 2018 ركزت في اهتمامها على مرض فقر الدم المنجلي، وعلى احتياجاتهم، في العلاج، والتوظيف، والتعليم.
من بين ذلك إصدار وزارة العمل لقرار بأن عدد الساعات التي يعملها مريض فقر الدم المنجلي قياسا بالأصحاء هي أقل بساعة أو ساعتين، وأن الإجازات المرضية له هي 114 يوما، كما أن الحد الأدنى للحصول على المعاش التقاعدي له هو 40 % من راتبه الأساسي، بغض النظر عن عدد سنوات الخدمة.
وعلى مدى عقود عدة، لم تتأخر البحرين في اعتماد سلسلة طويلة، من الأدوية العلاجية المتقدمة، والتي تساعد على تخفيف الآلام، والحد منها، وعلاج المرضى، منها أدوية (انداري)، و(كريزانليزوماب)، و(كاسفيفي ايسكا سيل)، وغيرها.
ويمثل اعتماد مملكة البحرين أخيرا لعلاج “كرسيبك”، الذي أحدث ثورة علاجية كبيرة للمرض، عبر تصحيح جيني للبصمة الوراثية للمريض، وشفائه، قفزة كبيرة في الرعاية الصحية التي تقدم للمرضى، بالرغم من وصول سعر الدواء لقرابة مليوني دينار.
قصص حياة
البحرين تقدم قصص نجاح، وليس موتا، في صراعها الأزلي مع مرض فقر الدم المنجلي، منها وصول عدد المصابين بالمرض إلى مناصب قيادية مهمة في الدولة، مثل تعيين المستشار علي عبدالله جاسم العرادي أمينًا عامًا مساعدًا للموارد وتقنية المعلومات بالأمانة العامة لمجلس الشورى، واستشاري أمراض الصدر والجهاز التنفسي بمجمع السلمانية الطبي ناصر سلمان.
وهنالك أيضا الروائي والكاتب القدير المرحوم فريد رمضان، ومناهل منصور التي تم اختيارها في العام 2018 ضمن أكثر مئة امرأة عربية مؤثرة، في قائمة البي بي سي.
إذًا للبحرين نماذج مشرفة تقول، إن البحرينيين قادرون على مواجهة هذا المرض، والتغلب عليه، وإنه ليس عذرا للتقاعس، وعدم القيام بالمسؤوليات، وما تزال المعركة مستمرة اليوم، وكل يوم.
Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram